للوصول لمغزى رئيسي في الأسطورة، كان لا بد للكاتب أن يقتل «أنكيدو» بعد أن أصبح الصديق الوفي لجلجامش، من أجل تذكير جلجامش نفسه بحدوده، وأن الموت شرط الحياة. هنا يبدأ ما لفت نظرنا، وهي رحلة البحث عن الخلود، أو الجنة المفقودة بعد أن أصرّ جلجامش على الرحيل من أجل مقاومة الموت، فقطع المسافات بحثاً عن رجل الطوفان الذي خصته الآلهة بالخلود، بسبب صنعه السفينة التي أنقذت بني البشر. لكن «نوح» أقنعه بأن الخلود لن يتكرر، ولن يحصل عليه كائن آخر. وأشار عليه بنبتة سحرية توجد في قاع البحر لا تعطي الخلود، لكنها فقط تجدد الشباب، وتطيل العمر.
أين تنبت العشبة التي تعطي الحياة وتبعد الموت؟
في الخليج العربي؛ فقد كانت العشبة السحرية لا تنمو إلا في أعماق بحر أرض الخلود، قرب ديلمون ذات الحضارة التي شملت جوارها الإقليمي على طول الخليج العربي، حيث غاص جلجامش في المياه العميقة، وحصل أخيرًا على العشبة السحرية. لكنه في طريق العودة يفقد حرصه على العشبة، فتسللت حية شريرة، والتهمت النبتة، فاستعادت الحية شبابها، لذا تبدل جلدها كلما تقدم بها العمر. وفي صراعه مع الموت وصل جلجامش إلى قناعة بأن الإنسان تخلده أعماله، وخير ما سيخلده هو السور العظيم الذي بناه ليحمي وطنه «أوركة».
في تفاصيل ملحمة جلجامش -التي تم اكتشافها في عام 1853 بالمسمارية باللغة الأكدية- وجد فيها المثقفون مضامين مختلفة، وراحوا يحللون الملحمة من أبواب عدة، منها الديمقراطية والحرية التي طالب الشعب بها، وما هو مقدس، وما هي الآلهة، بل حتى معنى الجنس، والبغي، والوحش، والحلم، والطوفان الذي قيل إنه طوفان سيدنا نوح.
وفي الخليج العربي يتكرر خروج العشبة السحرية الواردة في ملحمة جلجامش، فتخرج عشبة سوداء، مرت عليها تحولات في باطنه عبر آلاف السنين وتبدل الحقب، فصارت نفطاً. ويأتي جلجامش، شاب عربي ذو عزيمة، أملاً في فرصة تعطيه فسحة في حياة، يبني من خلالها مستقبله، ليوقف تدحرج عجلة الزمن السريعة، فتطيل عمره مع أعمار أهل الخليج، بعد حياة الفقر والصبر في الصحراء والسفن.
بالعجمي الفصيح
كان الخليج موطن الأمل في أقدم قصة كتبها الإنسان، لكن كان في ثناياها حية شريرة.